الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومعاذ بن جبل {وَيَزِيدُهُمْ} عليه عطف على ما قبله وعلى الوجه الآخر عطف على مقدر أي فيوفيهم أجورهم ويزيدهم عليها على أسلوب {وَقالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا} [النمل: 15] وقوله سبحانه: {مِن فَضْلِهِ} [البقرة: 09] متعلق بيزيدهم مطلقًا، وجوز تعليقه بالفعلين على التنازع فإن الإجابة والثواب فضل منه تعالى كالزيادة.وأيًا ما كان فالظاهر عموم الذين آمنوا وروي عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله عليه الصلاة والسلام ونقول له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها فنزلت قل {قل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المودة في القربى} [الشروى: 23] فقرأها عليهم، وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذلك عن قرابته من بعده فنزلت {أَمْ يَقولونَ افترى عَلَى الله كَذِبًا} [الشورى: 24] فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا وندموا فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] فأرسل صلى الله عليه وسلم إليهم فبشرهم وقال: {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ} وهم الذين سلموا لقوله ذكر ذلك الطبرسي، وذكر قريبًا منه في «الدر المنثور» لكن قال: أخرجه الطبراني في الأوسط.وابن مردويه عن ابن جبير بسند ضعيف، والذي يغلب على الظن الوضع {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بدل ما للمؤمنين من الإجابة والتفضل. اهـ.
.قال عبد الكريم الخطيب: قوله تعالى: {أَمْ يَقولونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.هو إضراب على موقف المشركين الذين دعوا إلى أن يخرجوا من موقفهم العدائى للرسول- إلى المحاسنة والمودة، إن لم يكن لأنه رسول اللّه، فلأنه منهم، وهم قومه، وأولى الناس به- ولكنهم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة التي تأتيهم من جهة القرابة والنسب، بعد أن رفضوا الدعوة التي جاءتهم من قبل السماء، هدى ونورا.فهاهم أولاء ماضون في كيدهم للنبىّ، وعدوانهم عليه، واتهامهم له بالكذب: {أَمْ يَقولونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.. فهذا هو كل ما استقبلوا به الدعوة الكريمة إلى المودة في القربى.إنه اتهام صريح للنبىّ بأنه كاذب افترى هذا القرآن الذي يدعوهم إليه، بدعوة اللّه..وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ}.. هو تهديد للمشركين بقبض هذه اليد الممدودة لهم بالهدى، ورفع هذه المائدة المبسوطة لهم بالخير.. وإذا هذا القرآن الذي نزل على النبي قد ختم عليه في قلبه- صلوات اللّه وسلامه عليه- فاحتواه كله، وغربت شمسه فيه، فلم يخرج منه شيء لهؤلاء المشركين، بل يتركون وما هم فيه من ظلام وضلال، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَئِنْ شئنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} (86- 87: الإسراء).. واللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يمحو هذا الباطل المجسد في هؤلاء المشركين ويقطع دابرهم، فلا ترى منهم أحدا، فبكلمة من كلمات اللّه، يمحو سبحانه هذا الباطل، ويقضى على أهله، ويحقّ الحق، ويثبت دعائمه.وقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي أنه سبحانه إذ يقضى قضاءه في هؤلاء المشركين، فإنما يقضى بعلمه الذي يكشف ما تنطوى عليه الصدور، فيهلك الضالين الظالمين، وينجّى المؤمنين المتقين.والمشيئة هنا في قوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} مشيئة غير واقعة، لأنها معلقة بشرط غير واقع.. فاللّه سبحانه لم يشأ أن يختم هذا الختم على قلب النبي.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَئِنْ شئنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} وقوله سبحانه: {وَلَوْ شاء رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ} (112: الأنعام).وقوله جل شأنه: {وَلَوْ شاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً} (118: هود).قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} هو بيان شارح لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} فهذه الآية- كما قلنا- دعوة للمشركين الذين اقترفوا السيئات، أن يعودوا إلى أنفسهم، ويقيموها على طريق الهدى، ويقترفوا الحسنات، كما اقترفوا السيئات.. ثم كان أن تهدّدهم اللّه بما يقولون من منكر القول في رسول اللّه، وذلك ما حكاه القرآن الكريم عنهم في قوله تعالى: {أَمْ يَقولونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، ثم تهددهم بذهاب هذا النور الذي طلع في ظلام ليلهم إليهم، فقال تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} عودة إلى المشركين بعرض هذا النور عليهم بعد أن آذنهم اللّه بزواله عنهم، وفى هذا وصل لتلك الدعوة التي دعوا إليها باقتراف الحسنة، وبيان شارح لها، على اعتبار أن هذا التهديد اعتراض واقع في ثنايا هذه الدعوة..ففى قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} دعوة إلى التوبة، وإلى اقتراف الحسنات بعد اقتراف السيئات.. وفى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} بيان للجهة التي يتوجه إليها التائبون بتوبتهم.. إنها إلى اللّه وحده.. فهم إنما يقدمون أعمالهم إلى اللّه، ويتوجهون بتوبتهم إليه، وعندئذ يجدون اللّه سبحانه هو الذي يتلقاها منهم.وفى هذا إغراء باللّجأ إلى اللّه، وإطلاق الإنسان من أي ولاء لغير اللّه.. وذلك في أول الطريق إلى اللّه.. فإذا آمن باللّه، آمن برسول اللّه، وجعل ولاءه للّه ولرسوله، وللمؤمنين.وفى تعدية الفعل (يقبل) بحرف الجر (عن) مع أنه يتعدى بمن، فيقال قبل فلان من فلان كذا، ولم يقبل منه كذا- في هذا إشارة إلى تضمين الفعل معنى الحمل، بمعنى أن اللّه سبحانه هو الذي يحمل التوبة عن عباده التائبين، وإن جاءت توبتهم محملة بالذنوب، مثقلة بالأوزار، فإن التوبة ترفع عن كاهلهم ما أثقلهم من ذنوب قد حملها اللّه عنهم.وقوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ} أي أنه سبحانه إذ يحمل التوبة عن عباده، ويتلقاها بما تحمل من أوزار وسيئات، فإنه سبحانه، يعفو عن تلك السيئات ويتجاوز عنها، ويغفرها لأصحابها.. فهو سبحانه الذي يقبل التوبة، وهو سبحانه الذي يملك العفو عن السيئات.. وهو سبحانه الذي يعلم ما يعمل الناس من خير أو شر..وفى الآية الكريمة دعوة إلى العصاة والمذنبين أن يلوذوا برحمة اللّه، ومغفرته، وأن يوجهوا وجوههم إليه تائبين من ذنوبهم، نادمين على ما فرط منهم، فاللّه سبحانه وتعالى يلقاهم بالرحمة والمغفرة..ففى الصحيح، من رواية عبد اللّه بن مسعود، رضي الله عنه، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «للّه تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم، كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك»!! (أخطأ من شدة الفرح).هذا، وليست التوبة، كلمة يلفظ بها اللسان، وإنما هي نية منعقدة على الندم على ما وقع من ذنوب، وعلى العزم على تجنب المعصية.روى عن جابر بن عبد اللّه، أن أعرابيا دخل مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر (أي تكبيرة الإحرام للصلاة)- فلما فرغ من صلاته، قال له علىّ كرم اللّه وجهه: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة! فقال:يا أمير المؤمنين.. وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب بالندامة، ولتضييع الفرائض، الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.قوله تعالى: {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}.هو معطوف على قوله تعالى: {وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ}- أي وهو سبحانه، يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي أنه سبحانه يقبل على عباده التائبين، ويقبلهم.. فمعنى الاستجابة هنا القبول، ولهذا عدّى الفعل {يستجيب} لتضمنه معنى القبول.. أما الكافرون فلا يقبل عليهم اللّه سبحانه ولا يقبلهم ولهم عذاب شديد.. ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} أي أنهم يستجيبون للّه، ويقبلون عليه تائبين.. وفى هذا إشارة إلى أن تقديم توبته سبحانه وإقباله على التائبين قبل أن يتوبوا- هي دعودة من اللّه سبحانه وتعالى إلى العصاة، وقد قبلت توبتهم قبل أن يتوبوا، وما عليهم إلا أن يستجيبوا للّه، ويقبلوا هذا العطاء العظيم، من الرب الكريم. اهـ..قال ابن عاشور: {أَمْ يَقولونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.إضراب انتقالي عطفًا على قوله: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [الشورى: 21] وهو الكلام المضرَب عنه والمنتقل منه، والمراد الانتقال إلى توبيخ آخر، فالهمزة المقدرة بعد {أم} للاستفهام التوبيخي، فإنهم قالوا ذلك فاستحقوا التوبيخ عليه.والمعنى: أم قالوا افترى ويقولونه.وجيء بفعل {يقولون} بصيغة المضارع ليتوجه التوبيخ لاستمرارهم على هذا القول الشنيع مع ظهور دلائل بطلانه.فإذا كان قولهم هذا شنعًا من القول فاستمرارهم عليه أشنع.وفُرع على توبيخهم على ذلك قوله: {فإن يشأ الله يختم على قلبك} وهو تفريع فيه خفاء ودقّة لأن المتبادر من التفريع أنّ ما بعد الفاء إبطال لما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتوكيد للتوبيخ فكيف يستفاد هذا الإبطال من الشرط وجوابِه المفرعين على التوبيخ.وللمفسرين في بيان هذا التفريع وترتبه على ما قبله أفهام عديدة لا يخلو معظمها عن تكلف وضعف اقتناع.والوجه في بيانه: أن هذا الشرط وجوابَه المفرَّعين في ظاهر اللفظ على التوبيخ والإبطال هما دليل على المقصود بالتفريع المناسب لتوبيخهم وإبطاللِ قولهم، وتقديرُ المفرع هكذا: فكيف يَكون الافتراء منك على الله والله لا يُقر أحدًا أن يكذب عليه فلو شاء لختم على قلبك، أي سلبك العقل الذي يفكر في الكذب فتفحم عن الكلام فلا تستطيع أن تتقول عليه، أي وليس ثمة حائل يحول دون مشيئة الله ذلك لو افتريت عليه، فيكون الشرط كناية عن انتفاء الافتراء لأن الله لا يقر من يكذب عليه كلامًا، فحصل بهذا النظم إيجاز بديع، وتكون الآية قريبًا من قوله تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لَقَطَعْنَا منه الوتِين} [الحاقة: 44 46].ولابن عطية كلمات قليلة يؤيد مغزاها هذا التقرير مستندة لقول قتادة محمولًا على ظاهر اللفظ من كون ما بعد الفاء هو المفرع، ويكون الكلام كناية عن الإعراض عن قولهم: {افترى على الله كذبًا}، أي أن الله يخاطب رسوله بهذا تعريضًا بالمشركين.والمعنى: أن افتراءه على الله لا يهمكم حتى تناصبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم العداء، فالله أولى منكم بأن يغار على انتهاك حرمة رسالته وبأن يذب عن جلاله فلا تجعلوا هذه الدعوى همكم فإن الله لو شاء لختم على قلبك فسلبك القدرة على أن تنسب إليه كلامًا.وهذان الوجهان هما المناسبان لموقع الآية، ولفاء التفريع، ولما في الشرط من الاستقبال، ولوقوع فعل الشرط مضارعًا، فالوقف على قوله: {على قلبك} وهو انتهاء كلام.وجملة {ويمح الله الباطل} معطوفة على التفريع، وهي كلام مستأنف، مراد منه أن الله يمحو باطل المشركين وبهتانهم ويحقق ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.وعلى مراعاة هذا المعنى جرى جمع من أهل التفسير مثل الكسائي وابن الأنباري والزجاج والزمخشري ولم يجعلوا {ويمح} عطفًا على فعل الجزاء لأن المتبادر أن هذا وعد من الله بإظهار الإسلام، ووعيد المشركين بأن دينهم زائل.وهذا هو المتبادر من رفع {ويحقُّ} باتفاق القراء على رفعه، والمراد بالمحو على هذا: الإزالةُ.والمراد بالباطلِ: الباطل المعهود وهو دين الشرك.وبالحق: الحق المعهود، وهو الإسلام.أو يكون المعنى أن من شأن الله تعالى أن يزيل الباطل ويفضحه بإيجاد أسباب زواله وأن يوضح الحقّ بإيجاد أسباب ظهوره، حتى يكون ظهوره فاضحًا لبطلان الباطل فلو كان القرآن مفترى على الله لفضح الله بطلانه وأظهر الحق، فالمراد بالباطل: جنس الباطل، وبالحق جنس الحق، وتكون الجملة كالتذييل للتفريع.والمعنى الأول أنسب بالاستئناف، ولإفادته الوعيد بإزالة ما هم عليه ونصر المسلمين عليهم.وعلى كلا المعنيين فقوله: {ويمح الله الباطل} كلامٌ مستأنف ليس معطوفًا على جزاء الشرط إذ ليس المعنى على: إنْ يشأ الله يمحُ الباطل، بل هو تحقيق لمحوه للباطل كقوله تعالى: {إن الباطل كان زهوقًا} [الإسراء: 81]، كما دل عليه رفع {ويحقُّ الحق بكلماته}، ففعل {يمحُ} مرفوع وحقه ظهور الواو في آخره، ولكنها حذفت تخفيفًا في النطق، وتبع حذفَها في النطق حذفُها في الرسم اعتبارًا بحال النطق كما حذف واو {سندعُ الزبانية} [العلق: 18] وواو {ويدْع الإنسان بالشر دعاءه بالخير} [الإسراء: 11].وذكر في (الكشاف) أن الواو ثبتت في بعض المصاحف ولم يعيّنه ولا ذكره غيره فيما رأيت.وإظهار اسم الجلالة في قوله: {ويمح الله الباطل} دون أن يقول: ويمحُ الباطل، لتقوية تمكن المسند إليه من الذهن ولإظهار عناية الله بمحو الباطل.وإنما عُدل على الجملة الاسمية في صوغ {ويمح الله الباطل} فلم يقل: والله يمحو الباطل، لأنه أريد أن ما في إفادة المضارع من التجدد والتكرير إيماء إلى أن هذا شأن الله وعادته لا تتخلف ولم يقصد تحقيق ذلك وتثبيته لأن إفادة التكرير تقتضي ذلك بطريق الكناية فحصل الغرضان.والباء في {بكلماته} للسببية، والكلمات هي: كلمات القرآن والوحي كقوله: {يريدون أن يبدّلوا كلام الله} [الفتح: 15]، أو المراد: كلمات التكوين المتعلقة بالإيجاد على وفق علمه كقوله: {لا مبدل لكلماته} [الكهف: 27].وإنما جاء هذا الرد عليهم بأسلوب الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن ذلك أقوى في الاعتناء بتلقينه جواب تكذيبهم لأن المقام مقام تفظيع لبهتانهم، وهذا وجه التخالف بين أسلوب هذه الآية وأسلوب قوله تعالى: {قل لو شاء الله ما تلوتهُ عليكم ولا أدْرَاكُم به} [يونس: 16] لأن ذلك لم يكن مسوقًا لإبطال كلام صدر منهم.وجملة {إنه عليم بذات الصدور} تعليل لمجموع جملتي {فإن يشإ الله} إلى قوله: {بكلماته}، أي لأنه لا يخفى عليه افتراء مُفترٍ ولا صدقُ محقَ.
|